السلام عليكم ورحمة الله وبراكاته
أبواب الأجر في الإسلام كثيرة.. وأسباب اكتساب الحسنات متعددة.. وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة فضلا من الله عز وجل على عباده وينادي منادٍ في أول ليلة من رمضان فيقول: “ياباغي الخير أقبِل وياباغي الشر أقصر” (رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني). ومن هنا.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له” (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وكان حال الشعراء قديما وحديثا حيال رمضان، مميزا عن باقي الشهور، فما أن يأتي شهر شعبان حتى يتنسم الشعراء عبير رمضان وتجد الشعر يتفجر عند بعضهم ابتهاجا بقدوم الصيام.
مصطفى صادق الرافعي المتوفى عام 1937 يعبر عن إحساسه بحلول الشهر الكريم بقوله:
فديتك زائراً في كل عام
تحيا بالسلامة والسلامِ
وتُقْبِلُ كالغمام يفيض حيناً
ويبقى بعده أثرُ الغمامِ
وكم في الناس من كلفٍ مشوقٍ
إليك وكم شجيٍ مُستهامِ
أما الشاعر محمد علي السنوسي فيقول:
رمضان يا أمل النفوس
الظامئات إلى السلام
يا شهر بل يا نهر ينهل
من عذوبته الأنام
طافت بك الأرواح سابحة
كأسراب الحمام
رمضان نجوى مخلص
للمسلمين وللسلام
تطهير النفس
ويكفي أن يعلم المسلم أثر الصيام في تزكية النفس وتطهيرها، وكونه سبيلا لتأهيل المسلم لطاعة الله والبذل في سبيله.
وآثار الصوم في حياة المسلم كثيرة جدا، مثل الصبر، وتذكر أحوال الفقراء والمحتاجين، فعندما يمس الجوع والعطش الصائم، يدفعه ذلك إلى مساعدة أولئك المحتاجين....لكن تلك الآثار مهما كثرت وتعددت ترجع إلى أصل واحد من آثار الصيام، وهو تقوى الله التي يثمرها الصيام في نفس الصائم، فإذا تحقق له هذا الأصل، تحققت له جميع الآثار المتفرعة عنه.
فالحكمة من تشريع الصوم هي أن يكتسب الصائم منه تقوى الله تعالى، التي تدفعه إلى طاعة الله وتحجزه عن معاصيه.
فعلى المسلم الصائم أن يختبر نفسه، وهو يؤدي هذه الفريضة العظيمة، هل اكتسب من صومه تقوى ربه، فحافظ على طاعته بفعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه؟
فإن وجد نفسه كذلك، فليحمد الله، وليستمر في سيره إلى ربه جادا في طلب رضاه عنه. وإن وجد غير ذلك، فليراجع نفسه ويجاهدها على تحقيق ما شرع الصوم من أجله، وهو تقوى الله، فقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن العظيم، لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون. فالقرآن وإن نزل لدعوة الناس كلهم إلى طاعة الله وتقواه لا يهتدي به في الواقع إلا أهل التقوى، كما قال تعالى: “الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين” (البقرة: -2) ومن أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله الصيام، وبخاصة صيام شهر رمضان، كما قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” (البقرة: 183).
حقيقة التقوى
إن الصيام يثمر التقوى، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بطاعة ربه في اجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه، بعد شروعه في الصيام.
وحقيقة التقوى، امتثال أمر الله بفعله، وامتثال نهيه باجتنابه والمؤمن عندما يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات والطيبات، طاعة لربه سبحانه، يكون أكثر بعدا عما هو محرم عليه في الأصل، وأشد حرصا على فعل ما أمره الله به. وقد دل الحديث الصحيح على أن الله تعالى شرع الصيام ليثمر في الصائم هذا الأصل، وهو تقواه، وأن الذي لا يثمر فيه صومه التقوى يعتبر عاطلا عن حقيقة الصيام، ولو ترك طعامه وشرابه... كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (البخاري 2/673).
ولوضوح النصوص من القرآن والسنة في أن الغاية الأساسية من الصوم تقوى الله، رأى ابن حزم رحمه الله، أن جميع المعاصي التي تصدر من الصائم تفسد صومه، ولو لم تكن طعاماً وشراباً وجماعاً، كالنميمة والغيبة... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم”.
وقد اختص الله سبحانه وتعالى شهر رمضان دون سائر الشهور بنزول القرآن الكريم، قال تعالى “شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للناسِ وَبَينَاتٍ منَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهْرَ فَلْيَصُمْهُ”. كما اختصه سبحانه وتعالى بليلة عظيمة الشأن، شريفة القدر، ألا وهي ليلة القدر، قال تعالى “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ منْ أَلْفِ شَهْرٍ”.
وفي هذا الشهر الكريم، وفي السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة انتصر الله سبحانه وتعالى لعباده الموحّدين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين المعاندين في معركة من معارك العقيدة، ألا وهي غزوة بدر الكبرى التي فرق الله فيها بين الحق والباطل.
كذلك فقد شهد هذا الشهر تحرير قبلة المسلمين من براثن الشرك، بعد أن أذِن رب العزة والجلال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفتح أم القرى في السنة الثامنة من الهجرة النبوية.
هذه المنزلة العظيمة لشهر رمضان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوق دائم إليه، فكان يدعو الله في كل عام أن يبلغه إياه ويقول: “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان”.
وعلى هذا النهج من الشوق والتوقير لشهر رمضان سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم من التابعين وسلف الأمة الصالح وهكذا ارتبط شهر رمضان في ذاكرة الأمة المسلمة بالعزة والكرامة، ابتداءً من غزوة بدر الكبرى، التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون في أول رمضان يصومه المسلمون.
ثمرات رمضان
إن ثمرات شهر رمضان وبركاته كثيرة ومتعددة، لو أحسن الإنسان فيه الإقبال على الله على الوجه الذي يريده الله عز وجل، وكل هذه الثمرات تصب في النهاية لصالح هذا الإنسان، بل إنها تتعداه لتفيض على أسرته وجيرانه، ودائرة عمله وهكذا تنداح الدائرة حيثما تحرك وسار.
تتجلى لك في نهار رمضان في هذا الإنسان: حكمة الشيوخ، ووقار العلماء، وخشوع العابدين، ورفرفة العارفين، ولكن العجب أن تجد البعض يتحلى بهذه الصفات العظيمة في النهار دون الليل.
وعلى قدر استفادة الإنسان من شهر رمضان ونجاحه في الانصهار به، فإن ثمرات ذلك وبركاته وأنواره تستمر معه لأطول فترة ممكنة إن لم أقل العمر كله فيبقى مراقباً لنفسه، متابعاً لهمساتها، مدققاً في حركاتها وسكناتها، حذراً من وساوسها وإيحاءاتها، متيقظاً لمنعرجات الطريق، ذلك لأن الطريق طويل، والمنعطفات فيه كثيرة، والالتواءات فيه مخيفة، والسير في غفلة وشرود قد يجعل المركبة تدخل في طريق فرعي وعر، فإذا بصاحبها يجد نفسه وسط المتاهة يقلّب نظره في السماء، ومن ثَمّ فلابد من اليقظة المستمرة والحذر الدائم.
ومن عجائب هذه اليقظة: أنها تولّد من النور نوراً، وتستخرج من الثمرات ثمرات أخرى كانت غائبة عن العين، فإذا العمر مبارك بفضل الله تعالى.. وتلك نعمة لا تزال تسمو بالإنسان، فتحلو به ومعه الحياة.
وفي رمضان تتجسد للعيان أخلاقيات سماوية رائعة، وتتجلى قضايا إيمانية عميقة، فرقابة الله عز وجل مثلاً تكون في ذروتها لدى الإنسان وهذا هو مقام الإحسان كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن هذا المقام فقال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
رقابة الله
فأنت تلاحظ، في ذات نفسك، وفي جميع المحيطين بك، أن رقابة الله تكون أوضح ما تكون في نهار رمضان، حيث لا يسمح أحدنا لهواه أن يغلبه، مهما كان ضغط هذا الهوى على نفسه، حتى حين يخلو بنفسه، حيث لا تراه عين بشر، تجده يستشعر قرب الله تعالى منه، ورقابته عليه، ومحاسبته إياه، هذه مثلاً علبة التدخين.. على مقربة من هذا الإنسان المبتلى بها، والذي يزعم أنه لا يستطيع الاستغناء عنها، هاهي في متناول يده، ولا يحول بينه وبينها أحد، وهذه المعشوقة التي توله بها قلبه تدعوه بإلحاح مثير، ولكنه في هذه اللحظة ينظر إليها في استعلاء، ولا يبالي بها، ولا يكترث بإيحاءاتها، ذلك لأن رقابة الله قد ملأت عليه نفسه، والخوف من سخط الله قد عمر قلبه، ومن ثَمّ ألزم نفسه الإعراض عنها وإن كرهت، وفي هذا درس عظيم لأولئك الذين يزعمون أنهم غير قادرين على الخلاص منها ولو لساعة من نهار..! وهكذا قل في بقية الشهوات التي يحسب الإنسان أنه قد أصبح أسيراً مستذل النفس لها.. وقد قيل في هذا المعنى الإيماني العميق:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوتُ، ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبنّ الله يغفلُ ساعةً
ولا أنّ ما يُخفى، عليه يغيبُ
ويتفرّع عن هذه الثمرة العظيمة: ثمرات كثيرة في حياة الإنسان وواقع الحياة: فاللسان في أروع حالات ضبطه، فلا يتفلّت، بل ترى أن صاحبه قد ألجمه بلجام ووثاق شديدين، فإذا الكلمات منتقاة موزونة نظيفة متوضئة طيبة مباركة، وبهذا يتحقق الإنسان بحقيقة الإسلام ففي الحديث: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.
هذا مجرد نموذج وصورة مباركة من صور هذا الشهر الكريم، والثمرات كما قلنا كثيرة متعددة، وكل ثمرة تتوالد منها ثمرات أخرى، لصالح المجتمع والحياة كلها، والمهم أن على الإنسان أن يستفيد من هذا الشهر جيداً.
إن أخلاقيات رمضان تجعل المرء يسمو فوق الأهواء، وتجعله يرفرف في آفاق عليا فيغدو الإسلام حياً في واقع الناس،وبهذا يكون قد استطاع أن يقدح شرارة التفاعل مع تعاليم الإسلام كلها، فإذا بالإنسان يندفع في تلقائية إلى دوائر الخير ينافس فيها المتنافسين. فإذا تصورنا أن مجتمعاً ما استمر على هذه الصورة الوضيئة النقية، بقية أشهر السنة، فإننا يمكن أن نقول: لقد استطاع الإسلام أن يصنع في دنيا الناس ملائكة يمشون على الأرض أرجلهم تطأ الثرى، وأرواحهم مشدودة إلى الملأ الأعلى